المسلم الذاهب إلى الحج يهجر أهله ووطنه وأقرباءه وأصدقاءه، ويترك ماله وأعماله من أجل أن يسافر ويتعب ويكد للوصول إلى تلك الأماكن المقدسة ليعبد الله وحده وليتقرب إليه بكل فعل من أفعال الحج أملاً في الحصول على المغفرة الإلهية والرحمة الربانية ورد عن الإمام الصادق (ع) «علة الحج الوفادة إلى الله عز وجل، وطلب الزيادة، والخروج من كل ما اقترف، وليكون تائباً مما مضى مستأنفاً لما يستقبل، وما فيه من استخراج الأموال، وتعب الأبدان، وحظرها عن الشهوات واللذات.. ومنفعة من في المشرق والمغرب، ومن في البر والبحر، وممن يحج وممن لا يحج، من تاجر وجالب وبايع ومشترٍ وكاتب ومسكين، وقضاء حوائج أهل الأطراف والمواضع الممكن لهم الاجتماع فيها كذلك ليشهدوا منافع لهم».
يشير الحديث إلى منافع متعددة لفريضة الحج وهذه المنافع على قسمين أساسيين:
1 ـ المنافع الأخروية والمعنوية والروحية.
2 ـ المنافع المادية والنفعية والدنيوية.
لكن كل هذه المنافع بقسميها تعود لمصلحة المسلمين كأفراد وكأمة وللإسلام كدين وعقيدة، لأن المسلم عندما ينظر إلى الحجيج في مكة المكرمة وهم حشود مجتمعة عند بيت الله الحرام من شتى بقاع الأرض، يشعر بقوة الأمة الإسلامية وعزتها وكرامتها، فضلاً عما يثيره ذلك المنظر المهيب من رهبة في قلوب الأعداء والمخالفين، والمسلم عندما يرى ذلك المنظر الذي يجتمع فيه الأبيض والأسود والعربي والعجمي ومن في المشرق ومن في المغرب والرئيس والمرؤوس والقوي والضعيف، فهذا كله يزرع في نفس المسلم القوة في التمسك بالدين الذي عليه والإيمان بربه والالتزام بنهجه، ومنحه الشعور بقوة الحق الذي يسير عليه ويهتدي به.
وبهذا تتميز فريضة الحج عن غيرها من العبادات الإسلامية الأخرى التي لها طابعها الفردي أساساً، وإن كان الاجتماع ملحوظاً فيها، ولكن بنسبة أقل من النسبة الموجودة في الحج، لأن فريضة الحج طابعها الأساس هو الاجتماع طبقاً لقوله تعلى {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، فهذه الآية تدل بالإجمال على المنافع الدنيوية والأخروية لعبادة الحج والتي سوف نتحدث عنها والناتجة عن تلبية المسلمين للنداء الإبراهيمي.
* أما المنافع العبادية لفريضة الحج فهي ما يلي:
أولاً: أن المسلم الذاهب إلى الحج يهجر أهله ووطنه وأقرباءه وأصدقاءه، ويترك ماله وأعماله من أجل أن يسافر ويتعب ويكد للوصول إلى تلك الأماكن المقدسة ليعبد الله وحده وليتقرب إليه بكل فعل من أفعال الحج أملاً في الحصول على المغفرة الإلهية والرحمة الربانية، لأن المسلم يعلم أنه وافد على زيارة رب كريم ورحيم وواسع المغفرة ويدعو عباده للعودة إليه والتمسك بدينه، وليس أحب إلى الله عز وجل من عبد مؤمن يسعى ويجهد بالعبادة للوصول إلى أن يكون مشمولاً للرحمة الإلهية.
ولهذا فالذاهب إلى الحج يسعى لكي لا يفوته الوقت ويعمل على استغلاله بالشكل المناسب من أنواع العبادة والطاعة الواجبة منها والمستحبة على السواء، لأن الكل يوصل إلى النتيجة التي يرجوها ويأملها، ولذا يقول الإمام الخميني المقدس «السلام على المؤمنين المهاجرين إلى بيت الله الحرام.. السلام على الذين هجروا كل أنواع الشرك، واتجهوا إلى مركز التوحيد، وتحرروا من قيود العبودية والطاعة لجميع أحكام العالم ومراكز الاستكبار والاستعمار والقوى الشيطانية، وتمسكوا بالقدرة الإلهية المطلقة بحبل التوحيد المتين».
ثانياً: الاستجابة لنداء نبي الله إبراهيم (ع) الذي أطلقه للبشرية جمعاء للتوجه إلى مكة المكرمة لتجديد العهد لله بالسير على خطه ونهجه والابتعاد عن كل ما يعترض طريقه من عوامل الترغيب والترهيب التي تريد له الانسياق وراء شهوات الحياة الدنيا وملذاتها، لأن التلبية تعني استعداد المسلم للتضحية بكل المتاع الدنيوي الزائل وبكل المتع الزائفة التي تذهب لذاتها وتبقى آثارها السيئة، والتلبية تعني أن المسلم حاضر ومنتبه ومسيطر على نفسه وعلى ذاته، وهو يفهم ما ترمز إليه التلبية من الثبات في خط التوحيد والطاعة والقيام بما قام به النبي إبراهيم (ع) والنبي محمد (ص) من أفعال قاما بها لإثبات وإرساء فريضة الحج وما تحتويه من مناسك وأفعال، ولذلك يقول الإمام الخميني (قدس سره) «احملوا من ربكم نداءً إلى المسلمين في قارات العالم كافة أن لا يعبدوا إلاّ الله»، ويقول أيضاً «.. حيث الملايين يذهبون كل عام إلى مكة وتطأ أقدامهم الأرض التي وطئتها أقدام النبي الأعظم (ص) وإبراهيم واسماعيل وهاجر، ولكن ما من أحد يسأل نفسه من هما إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وعلى آلهما، وماذا فعلا؟ وماذا كانت أهدافهما؟ ولأي شيء دعوانا؟ وكان هذا هو الشيء الوحيد الذي لا يتم التدبر له».
فالتلبية للنداء الإبراهيمي هي عبارة عن أن نذهب إلى الحج ونمتثل أمر الله بأداء المناسك كما أداها النبيان العظيمان ـ إبراهيم ومحمد (ص) ـ حيث تجلى التوحيد بكل معانيه وأبعاده بواسطة تلك الأفعال الظاهرية التي يرمز كل واحد منها إلى هدف إيماني وبعدٍ روحي لا يمكن للمسلم الاستغناء عنه في مواجهة مغريات الدنيا وشهواتها ومصاعبها وضغوطاتها، ولذا يقول الامام الخميني (قدس سره) «الحج هو منطلق رسالة إيجاد وبناء مجتمع المستقبل المطهّر من الرذائل المادية والمعنوية كافة»، ويقول «إن الطواف حول بيت الله يعلمكم وينذركم أن لا تطوفوا حول غير الله».
ثالثاً: قهر شياطين الإنس والجن الذين يوسوسون للإنسان ويزينون له المحرمات والشهوات، وأنها مما لا ينبغي تفويتها، فيحتاج المسلم في المقابل إلى السلاح الذي يدافع به عن نفسه في مواجهة تلك الوسوسات الشيطانية، وهذا ما تحققه فريضة الحج المليئة بالاشارات الرمزية والمعاني الروحية الموجودة خلف كل فعل من أفعاله في الإحرام والطواف والسعي والذبح والتقصير ورمي الجمار والأضحية، فهذه الأفعال جميعاً ليس لها إلا معنى واحد وهو «قهر شيطان النفس ووسوساته المنحرفة والدنيئة»، التي تهبط بالإنسان من مستواه الإنساني إلى المستوى الغرائزي والمادي، ولذا يقول الإمام الخميني (قده) «وإن رجم الشيطان رمز لرجم شياطين الإنس والجن، بينما ترجمون الشيطان عاهدوا ربكم على طرد كل الشياطين والقوى الكبرى من بلادكم الإسلامية العزيزة».
وأما المنافع الدنيوية لفريضة الحج فهي كثيرة ولكن نقتصر على ذكر المنافع السياسية لأهميتها البالغة في حياة الأمة الإسلامية وهي:
1 – الحج مؤتمر سنوي للمسلمين دعاهم إليه رب العالمين ليجتمعوا عند بيته الحرام ليعبدوه أولاً ثم ليتباحثوا في قضاياهم وشؤونهم وما يهم بلدانهم وشعوبهم، وهذا الاجتماع لا بد أن يكون في كل عام ما دامت فريضة الحج مستمرة، وهذه ميزة لا توجد عند غير المسلمين، الذين إذا أرادوا عقد اجتماع سخروا كل الوسائل الإعلامية المسموعة والمرئية والمقروءة لأجل ذلك، بينما المسلمون وبمجرد تلبية النداء الإلهي يجتمع الملايين في مكة المكرمة، وهذا يشكل فرصة ذهبية سنوية لقادة المسلمين لكي يعقدوا مؤتمراً سنوياً على مستوى «أهل الحل والعقد» لتدارس أوضاع المسلمين والخروج بالنتائج التي تعود بالنفع على مستوى كل الأمة وامتداداتها في العالم كله، وفي ذلك يقول الإمام الخميني (قده) «من الواضح للجميع أنه ليس بمقدور أي إنسان وأية دولة عقد مثل هذا المؤتمر الكبير، وانه لأمر الله الذي صنع مثل هذا الاجتماع الكبير العظيم، إلا أنه ـ للأسف الشديد ـ لم يستطع المسلمون على مر التاريخ أن يستفيدوا من هذه الهدية السماوية، وهي عقد هذا المؤتمر الإسلامي لنفع الإسلام والمسلمين كما يلزم».
2 – الحج دعوة لتوحيد الأمة تحت راية «كلمة التوحيد لتوحيد الكلمة»، لأن اجتماع المسلمين في مكة المكرمة «قبلة المسلمين ومركز التوحيد» يكشف عن الوحدة الحقيقية لهذه الأمة العظيمة، وأن الإسلام هو الذي وحدها، وأن رسولها محمداً (ص) هو الذي جمعهم على الهدى والتوحيد والوحدة وذلك تحت شعار
«لا إله إلا الله، محمد (ص) رسول الله»، وعلى المسلمين من خلال الحج أن يفهموا ويدركوا أن الإسلام هو فوق الأطر المذهبية الضيقة، وأن الاختلافات في بعض الفروع العقائدية أو الفقهية والأصولية ليست سبباً للتفرقة بين المسلمين أو لتشتيتهم وبعثرتهم، ولذا يقول الإمام الخميني المقدس «ومن جملة واجبات المسلمين في هذا الاجتماع العظيم، دعوة الشعوب والمجتمعات الإسلامية إلى وحدة الكلمة ونبذ الخلافات بين طبقات المسلمين، وفي إيجاد «جبهة المستضعفين» والتخلق بشعار «لا اله الله» ووحدة الكلمة من أسر القوى الشيطانية للأجانب والمستعمرين والاستغلاليين».
3 – توجيه أنظار المسلمين من خلال الحج إلى الأعداء الأساسيين للأمة، انطلاقاً من قوله تعالى {فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}، وكذلك قوله {فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}، وكذلك قول النبي (ص) «اقتلوا شيوخ المشركين، واستبقوا شرخهم»، وفي ذلك يقول الإمام الخميني (قده) «أيها الأعزاء من أي بلد كنتم، دافعوا عن كرامتكم الإسلامية والوطنية وقفوا في وجه أعدائكم المتمثلين في أميركا والصهيونية العالمية والقوى الكبرى.. ودونما خوف أو وجل واكشفوا عن الظلم الذي يمارسه أعداء الإسلام»، ويقول «أميركا تحتل المرتبة الأولى بين أعداء الشعوب المستضعفة والمحرومة ولا تتورع عن ارتكاب أية جريمة لفرض هيمنتها السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية على البلدان الخاضعة لسيطرتها.. إنها تعمل على امتصاص خيرات الشعوب المستضعفة عن طريق عملائها الخونة المستترين بين شعوبهم».
ولا شك أن قتال رؤوس الكفر والشرك دون أذنابهم وأتباعهم يجعل قوة المسلمين موجهة نحو العدو الأساس من دون المرور بالاستنزاف الذي قد يمارسه أتباع المستكبرين والذين قد يكونون منتشرين بين المسلمين للإلهاء والإضعاف وتفريق الكلمة وتبديد الشمل، ومثل هؤلاء وإن كان لا ينبغي إغفالهم، لكن لا يستحقون أن توجه كامل قوتنا ضدهم، بل ضد أسيادهم، فإذا انهزم أسيادهم فالهزيمة ستلحق بهم حتماً لأن قوتهم من قوة ذلك العدو الذي انهزم.
4 – إعلان البراءة من أعداء الله وأن لا مجال للتعاون معهم أو الاستسلام لهم أو المهادنة والخضوع، لأن ذلك ينافي العزة والكرامة والشرف والإباء كما يقول الإمام الحسين (ع) «موت في عز خير من حياة في ذل»، ولذلك قال الله تعالى في كتابه {وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}، لأن البيت الحرام هو مركز التوحيد ومقصد الموحدين، واذا كانت البراءة غير مقدورة للإعلان من ذلك المكان، فمن أي مكان يتبرأ المسلمون من أعداء ربهم ودينهم، ولذا يقول الإمام الخميني «إن إعلان البراءة في الحج هو تجديد العهد بالجهاد، وهو تربية المجاهدين لمواصلة الحرب ضد الكفر والشرك وعبادة الأصنام، وهو لا يقتصر على الشعارات، بل يتعداها إلى التعبئة والتنظيم لجنود الله أمام جنود إبليس وكل الأبالسة، والبراءة هذه من المبادئ الأولية للتوحيد»، وفي كلام يعبر عن الألم عند الإمام الخميني (قده) من حالة الأمة يقول «إن صرخة براءتنا من المشركين والكفار اليوم، هي صرخة البراءة من الظلم والظالمين، وصرخة أمة ضاقت ذرعاً باعتداءات الشرق والغرب وعلى رأسهم أميركا وأذنابها، وغضبت من نهب بيتها وثرواتها».
هذا بعض ما يمكن أن نستنتجه من منافع فريضة الحج في المجالات العبادية والسياسية، وان نفهم الدور الريادي لهذه الفريضة المهمة والمتميزة في نظامنا العبادي الإسلامي، وفي ديننا بشكل عام، ومن هنا ليس كثيراً أن تكون فريضة الحج من الأعمدة الرئيسة التي بني عليها الإسلام كما جاء في الحديث «بني الإسلام على خمس، على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية».
نسأل الله أن يجعلنا ممن يحجون الحج الواعي والهادف الذي تعود منافعه لمصلحة المسلمين والإسلام لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين السفلى.